يمخرُ مركبُ الشوقِ آفاقَ الغيابِ، يصبحُ الحنينُ شراعاً يطوفُ بقلبي ليخرجَه من أعاصيرِ الغربةِ ويوصلَه إلى الميناءِ الأخير.
تطيرُ
عصافيرُ الفؤادِ كلَ مساءٍ عندما تدقُ الساعةُ الحادية عشرة، وتخفقُ فرحاً
في عالمِ الديحتال والتقنيات الحديثة. تعانقُ أصواتَ الأحبة المنطلقةُ من
بيوتٍ حنونة: من أحيائِنا التي تأكلُ قوتَها اليومي من البراءةٍ والظلمِ
المتراكمِ فوقَ صهوةِ الكبرياءِ، من حاراتٍ تحلمُ وتحلمُ، والحلمُ جميل.
عندما
تدقُ الساعةُ الحادية عشرة ليلاً يبدأُ في الوطنِ يومٌ جديد. هل تترُكُ
الأحلامُ حذائَها على الدرجِ وتهربُ من حفلِ الأمير؟ هل ستبحثُ أصواتُ
الأحبةِ عن سيندرلا الحرية؟ كنت دائماً أقول: مع كلِ صباحٍ تشرقُ شمسُ
الأمل، فهل بقي من أملٍ كي يعششَ تحت الأسقفِ القرميدية وبين شواهقٍ غابات
الإسمنت؟
عندما
تدقُ الساعةُ الحادية عشرة أركضُ وراءَ اقدامي وهي تسبقني مسرعةً مخلفةً
ورائها ما تعلقَ على وشاحِ يومي من آلامِ الغربةِ وأوساخِ الحياةِ
اليومية. أطاردُ خطواتي وهي تقودني إلى "حديثِ الروح" لتغسلَ روحي من
الهمومِ وتعيدُ إلى الطمأنينة.
من
قال أن عالمَ الديحتال عالمٌ بلا أرواح؟ من قال أن الأسماءَ أصفارٌ تخفي
في غياهبها كماً هلامياً بلا شكلٍ وبدونِ تمييز؟ من قال أن هذه الأسماءَ
لا تحلم؟
هذا
العالمُ هو بيتي منذ وعتْ روحي إلى نفسها وكبرتْ لتناجي أرواحاً تحلمُ
مثلها بشمسٍٍ جديدةٍٍ وزقزقةِ ربيعٍ يغازل ابتسامات ربوةٍ اختفت خجلةً
وراءَ ملاءةٍ خضراءَ عند ضفافِ بردى! عندما تدقُ الساعةُ الحادية عشرة
تهرولُ أحلامي إلى عالمٍ مخفيٍ تحتَ أجنحةِ الحنين. تركضُ مثلَ شراعٍ
مسرعٍ إلى ميناءٍ آمنٍ هرباً من عواصفِ الحياةِ ليستقي منها عبيرَ طفولةِ
الياسمينِ، فتهطلُ علي أصواتُ الأحبةِ تحملُ في طياتها عنفوانَ ذكرياتي
التي خبأتُها في شارعٍ رسمتُه في شعابٍ قاسيون. أناجي خطواتَكم وانتم
تمرون مسرعين في أزقةِ دمشقَ القديمة: رويداً، رويداً أيها الرفاق! لا
تدوسوا ذكريات حبي التي تبعثرتْ في شذا الريحانِ وتقاسمَتْها مع أغنيةِ
كنارِ الحزينة "على دجلة تقعُ الشآم"
أتراني
اشتاقُ إلى دمشقَ عندما تدقُ الساعةُ الحادية عشرة؟ أتراني أحنُ إلى فيروز
وأغنية "الأبواب"؟ أم إلى الرحيلِ في حلمِ نسجتُ كلَ خيوطِه وصورهِ ليصبحَ
مديتي الفاضلة؟ أتكون الساعةُ الحادية عشرة كآذانُ الصبحِ نداءاً للتواصلِ
مع الربِ في السماءِ، أم قدحاً من خمرِ لنسيانِ غربتي وأوجاعِ الحنين؟ لا
يهم. لا يهم ماذا تكون. في الساعة الحادية عشرة امتطي صهوَ البراقِ
وأَعْرُجُ إلى أحلامِ روحي المعششةِ في أسقفِ دمشقَ الطينيةِ وفي أروقةِ
بيوتِها وحاراتِها القديمة. أَعْرُجُ لأجمعَ منها ما نسيتُ من شذا
الذكرياتِ وأمشقُ ما تبقى فيها من عبقِ العلا والكبرياء.
عندما
يصحو القمرُ من نومِهِ وتحتلُ مساحةَ روحي رائحةٌ الفلِ والوردِ الدمشقي
يغمرُ فؤادي دفئٌ عجيبٌ كذاك الذي عهدته وأنا بانتظارِ نجوى في مقهى
الجندول. فلمن أشكو شوقي؟ من يكفكفُ عن خدي دموعَ الرحيل؟ من يلون على
وجهي ابتسامةَ الحلمِ بوطنٍ بلا أسوارٍ وبواريدٍ وعسكر؟ من يقاسمني
الحُلمَ بحقنا بالعيشِ والقولِ الحرِ وتنشقِ رائحةِ العنبر؟ في الساعة
الحادية عشرة تصحو أحلامي وتطرقُ صمتي لأقولَ ما أريد. تصحو وتحرقُ صبري
لأنادي بأعلى صرخة: أصوتُ حلمي خطرٌ على الوطن أم أن سوطُ الجلاد أخطر؟
في
منتصفِ الليلِ تعودُ أسرابُ السنونو إلى عشها في حديثِ الروحِ لتروي لي
قصصاً عن سحرِ الوطنِ، فأنتشي ثمالةً، أطوفُ بالذكريات. ثائرُ يمسك بكفِّ
ريما ويبحثان عن ذكرياتٍ زرعتُها على قمة قاسيون. علي يطوّقُ بحنانٍ كتفيّ
فاتنِ ويصفُ لي في الساعة الرابعة صباحاً كيف تغتسل دمشقُ بمطرِ الأضواء.
كنارُ توضبُ حاجاتِ نايا ولا تنسى أن تكتبَ بيتَ شعرٍ لصديق قُذِفَ خلفَ
حدودِ الوطن.
وعندما
تبتعدُ روحي قليلاً عن خليجِ الذكرياتِ يأتيني صوتُ المهاجرِ الحنونُ
يشدني إلى طفولته ورغمَ وجعِ غربتِه الذاتية أراه يرسم لي فراشاتَ قريتِه
وفي خلفيةِ المشهدِ أصابعُ حسانِ تداعبُ آلةَ العودِ مثلما يداعبُ حبيبٌ
حبيبتَهُ فتغنجُ لنا بنشوةٍ شبقةٍ بالحانٍ تناجي أوتارَ حزني وانينَ غربتي.
عندما
تدقُ الساعةُ الحادية عشرة يفوحُ أريجُ عبقِ الياسمينِ وتطلُ عليَّ قطرُ
الندى، فتبدو لي في الأفقِ طفولةُ حلبِ الشهباءَ برونقِها ورقتِها، بشغب
تغازل عالماً ظالماً. لا تكبري يا شقيقةَ الروحِ لا تكبري! أعيدي إلينا
لونَ أفياءِِ الفرحِ ومجدَ قلعةِ صلاح الدين.
في
الساعة الحادية عشرة يستعدُ الوطن للاسترخاءِ في سريرٍ لونَتْ أحلامَهُ
صوارٍ يعربية. أشعرُ بالخجلِ من نفسي: أتنامُ أحلامي وميسُ تداعبُ نسيمَ
الأملِ وتنسجُ منه خيوطَ غدٍ جديدٍ؟ لا، لا تناموا! ففي الساعة الحادية
عشرة موعدنا مع "روح" ترحلُ بنا إلى سهولِ "اديغا" وقممِ القوقازِ وترحلُ
بي إلى ذكرياتِ حبيبتي التي توحدتْ أحلامُها مع عنفوانِ الجنوب.
في
هذه الساعة قد يغفو الوطن قليلاً لكن لا تنام الأحلام. تضعُ رأسَها باسمةً
في حضنِ انكيدو ليروي لها قصةَ جلجامش ومجموعةِ أصدقاءٍ يجتمعون كل مساءٍ
في حلمٍ ورديٍ وفي آهات فيروز. يروي لها كيف رفضوا الخروجَ من الحلمِ
وراحوا كأطفالٍ أشقياءَ يلونون حبَّهم للوطنِ على جدرانِ مساحاتِ الضوءِ
المنبثقةِ من نوافذِهم الإلكترونية.
أتعرفون
بماذا أشعرْ في الساعة الحادية عشرة عندما تغيبُ عن أذني همسةُ مهيار وهو
يحاول أن يعيدَ إلى أحلامِنا عبيرَ ماضينا وإرثَ الكبرياء عن أبيه الشيخِ
الجليل؟ أفقد جزءاً من ذاتي. يغيب قليلاً وضوحُ المشهدِ وحدةُ الصورة.
لكنني في قلبي أراهُ يعلمُ مالكاً حلمَ أبي وشموخَ قاسيون وكبرياءَ الكرمل.
أضمُ
باقةَ أحلامي، أُهذّبُ كل آمالي في حقيبة إلكترونية وارحلُ عن غربتي في
تمامِ الساعةِ الحادية عشرة. استعينُ ببسمةِ فرحِ تطلُ عليَّ من مدينةِ
الضبابِ وتداعبُ أُذني همسةُ سناءِ الدمشقيةُ وملاكً ابيضً ينيرُ الطريق.
لن
تنهشَ الغربةُ بعدَ اليومِ رحيقَ فؤادي. لن يسرقَ الرحيلُ مني الأمل. لن
يُعيدَني العسكرُ بعدَ الآن عن الحدود. فقد صنعتُ من قلوبِكمْ قطعةَ وطنٍ
أعيشُ فيه بحريتي. وطنٌ لانكيدو وجلجامش. وطنٌ لكاملِ كي لا يصارعَ
الماردَ في ارضِ الغربة. وطنٌ لفادي العائدِ إلى أحضانِ قريتِهِ الحبيبة.
في الساعة الحادية عشرة وجدتُ وطناً من صهيلٍ وكبرياءٍ لروبي وطناً لروني
لنحصدَ فيه قصائدَ القباني. فنمْ هادئاً يا وطني! نمْ هادئاً وجدتُكَ في
حلمي وابتسامِ الأصدقاء. وجدتُكَ في شعابِ روحي جميلاً نقياً كحلمَ
الرحمةِ يهبطُ إلي من السماء .