"لا
تشكّ للحظة في أنك بمثابة ابني؛ لهذا سأكون صريحاً معك.. من العبث أن
تُضيع سنوات عمرك في الدراسة، قدراتك العقلية لا تسمح لك بتجاوز
الاختبارات، وهذا ليس عيباً فيك يا بني، إنها قدرات، ويمكنك أن تتجه من
الآن لتتعلم حِرفة تجعلك شخصاً مميزاً.. التعليم ليس كل شيء، وستنجح إن
شاء الله".
بهذا الحنان الكاذب، وضع مدير المدرسة حداً لطموح الصبي ذي الأعوام الخمسة عشر، ودفعه ليبدأ معركة الحياة قبل أوانها.
عمل الصبي بالنصيحة، ظلّ سبعة عشر عاماً يكدح في مِهَن بسيطة، كانت كلمات
مدير المدرسة تؤكد له دوماً أنه لا يجب أن يعوّل كثيراً على ذكائه
وتفكيره، وقد آمن بكلامه حقاً؛ فلم يفكّر، إلى أن بلغ الثانية والثلاثين
من عمره في عمل أي شيء ذي قيمة.
بيْد أنه -وبطريق المصادفة- خضع لأحد تقييمات معامل الذكاء، والتي كشفت أن منحنى ذكائه وصل إلى (161)!!.
وعندها -ولك أن تتخيل- تحوّل الرجل إلى شخص عبقري، يفكّر كما العباقرة،
ويتحرك كما العباقرة، ويرسم لنفسه مستقبلاً يليق برجل نابغة عالي الذكاء؛
فكتب العديد من الكتب، ونال أكثر من براءة اختراع، وأصبح رجل أعمال ناجح.
لكن المفاجأة الأهم هي اختياره رئيساً لمجتمع "مينسا" العالمي، ويكفي أن
تعلم أن مجتمع "مينسا" لديه شرط عضوية واحد لا غير؛ منحنى ذكاء لا يقلّ عن
140؛ أي أن بطلنا الذي لم يكمل تعليمه الدراسي أصبح رئيساً على مجتمع
"العباقرة".
"فيكتور سيربرياكوف"، وهذا اسم بطل قصتنا، يجعلنا نتوقف قليلاً قبل أن
نعيد النظر للحياة وننظر، تُرى كم عبقرياً أنهت حياته كلمة أو أكثر؟
وتوقّف طموحه عند تصوّر خاطئ؟ أو نصيحة كاذبة من شخص ربما كان يرتدي زي
الملائكة المخلصين؟!
ما أكثر الكلمات التي تتلقاها آذاننا كل يوم وكل ساعة، تخبرنا أننا يجب أن نعود إلى رشدنا ونرضى بأقل القليل.
المؤسف أن تذهب بنا توقعات الغير مذهباً خطيراً،
ندفع نحن على إثره ثمناً باهظاً؛ فلقد ذكر أحد الوعاظ في السجون
الأمريكية، أنه لاحظ شيئاً خطيراً أثناء حديثه مع كل مسجون، في محاولة
لمعرفة ظروف نشأته والبيئة التي خرج منها؛ حيث صرّح أن أكثر من 90% من
المسجونين، كان آباؤهم يخبرونهم أن السجن سيكون هو نهاية المطاف بالنسبة
لهم.. وهي النبوءة التي تحققت بالفعل.
إن إيمان المرء منا بنفسه، وذاته لأمر لا يمكن إغفاله،
إذا ما أحببنا أن نتحدث عن النجاح في الحياة؛ وذلك لأنه من الصعب أن يرتقي
المرء سلم النجاح، دون أن يتأكد من قدراته على الصعود، واستحقاقه لما يطمح
إليه.
زيج زيجلر في كتابه "أراك على القمة" يؤكد أمراً بالغ الخطورة، وهو أن
أذهاننا تُكمل أية صورة نتخيلها عن أنفسنا؛ بمعنى أنك إذا ما رأيت نفسك
شخصاً عادياً؛ فإن ذهنك سيبدأ من فوره في تقمّص هذا الدور؛ فيأتيك بكلمات
العاديين، ويلهمك تصرفات العاديين.
العقل قادر على تشكيل تصوّر كامل لحياتك، وفق ما تدخله من بيانات ومعطيات، ويكفيك أن تُدخل الخطوط الرئيسة كي يتكفل هو بوضع كثير من التفاصيل الفرعية، وإيضاحاً لهذا الأمر، دعني أسألك:
ما هو الفرق بين أن تمشي على لوح خشبي عرضه 12 بوصة موضوع على الأرض، وأن تمشي على نفس اللوح، وهو موضوع بين طابقين يبلغ ارتفاعهما عشرة أدوار؟
من السهل -يقيناً- المشي فوق اللوح الخشبي، وهو موضوع على الأرض؛ ولكن إذا
ما وضعته بين البنايتين؛ فسيكون المشي عليه مختلفاً تماماً، سيكون مريعاً
إن شئنا الدقة.
زيجلر يفسر هذا الأمر بأنك في الحالة الأولى ترى
نفسك تمشي بسهولة وأمان؛ حيث اللوح موضوع على الأرض؛ فلا خطر يمكن أن يحيط
بك إذا ما تعثرت؛ بينما ترى نفسك تسقط من أعلى في الحالة الثانية، إنه
عقلك الذي صنع مخاوف واضطربات حقيقية، مما كان له كبير الأثر في سلوكك
البدني والنفسي آنذاك؛ برغم أن المنطق يقول إن اللوح الخشبي واحد، والمرور
عليه يجب أن يكون سهلاً في الحالتين، أو صعباً في الحالتين.
كذلك نحن في الحياة، إذا ما رأينا أنفسنا قادرين على تخطي أمر ما، أو
الفوز بشيء ما؛ فإن العقل سيبدأ في وضع تصور ورؤية مبنية على ما نراه
ونؤمن به، ولا غرابة في ذلك.
معاوية بن أبي سفيان مثال للدهاء والنبوغ، كان دائماً ما يفخر قائلاً "أنا
ابن هند"، والسبب أن هند بنت عتبة (أمه) ربّته على يقين بأنه سيكون ملكاً؛
حتى إنه يُروى عنها عند مولده أن قالت لها إحدى النساء: "إن عاش ساد
قومه"؛ فما كان من هند إلا وصرخت فيها: "ثكِلْتُه إن لم يسُد العرب
أجمعين"؛ فربته على هذا التصور؛ فعاش وعقله قادر على ملء صورة الزعامة.
السلطان محمد الفاتح، تربّى وأمام عينيه أسوار القسطنطينية؛ فكان يذهب وهو
طفل إلى أقصى أمد يمكن أن يصل إليه في البحر، ويهتف "أنا من سيحطّم أسوارك
العنيدة"، ولم يلبث كثيراً بعد توليه المُلك إلا وكان فاتحها.
خلاصة ما أودّ قوله يا صديقي أن رؤيتك لذاتك هي أهم جزء في منظومة النجاح،
أنا لست من ذلك الصنف الذي يهتف صارخاً "أنت قادر على تعديل الكون لو
أردت" مُغْفلاً الفروقات الفردية بين الأفراد وبعضها؛ لكنني أهيب بك
صادقاً أن تنظر ملياً إلى ذاتك، أن تُنحي جانباً كثيراً من الكلمات
والقناعات والرؤى التي آمنت بها حيناً من الدهر، وصاغت -رغماً عنك- ماضيك
وحاضرك؛ فإذا ما رأيت في نفسك القدرة على أن تكون رقماً صعباً في هذه
الحياة؛ فيجب عليك أن تكون.
يكفيك يوم انتهاء أجلك رضاك عن حياة اخترتها أنت بملء إرادتك